ينصُّ التعريف الفيدرالي لصعوبات التعلُّم، المدرج في قانون تعليم الأفراد ذوي الإعاقة [IDEA, 2004] على ما يأتي: “يُقصد بمصطلح صعوبات التعلُّم الخاص Learning Disabled بأنه: “اضطراب في واحدة أو أكثر من العمليات النفسية الأساس، التي تنطوي على فهم اللغة المحكيَّة أو المكتوبة أو استعمالها، والتي قد تظهر بوصفها قصورًا في القدرة على الاستماع والتفكير والتحدُّث والقراءة والكتابة والتهجئة أو القيام بالحسابات الرياضياتية.”
في حقيقة الأمر، فإن تعريف صعوبات التعلُّم يعدُّ أكبر التحديات التي تواجه تعريف الطلُّاب ذوي الاحتياجات التعليميَّة؛ ما دام التعريف يُركِّز على الاضطرابات المُصاحبة لصعوبات التعلُّم وليس على الآلية التي تسببَّت في حصولها؛ إذ إنه لا يسلم اشتراك اضطراب ما، أو طيف من الاضطرابات، في الإشارة إلى أمراض عدة.
نقصد بالآلية هنا: “نسق من عمليات الدماغ، التي ينتج عنها بعض التغيرات التي تُعيق التعلُّم“، وكلَّما ازداد فهمنا للآلية، استطعنا أن ننتقل من المؤشرات الموضوعيَّة والعلامات الحيوية للاضطرابات إلى المرض المُسبِّب لها، وهو ما سينعكس على صرامة تصنيفنا للطلَّاب ذوي الاحتياجات التعليميَّة وسلامة وصفنا لحالاتهم والاستراتيجيات المُثلى لتعليمهم وتعويضهم فاقد تعلُّمهم.
بالرغم من أن تشخيص صعوبات التعلُّم عن طريق البحث في آلية عمل الدماغ، إنما يعدُّ هو الآخر تحديًا كبيرًا؛ إذ إن الدماغ نظام مغمور في الهرمونات، وهو ما يجعل شبكاته العصبيَّة حسَّاسة جدًّا لأي تغيُّر يُصيب النسق الهرموني. كذلك، فالدماغ نظام في تعالق مستمر مع البيئة الاجتماعيَّة التي ينشأ فيها؛ ممَّا يجعل متغيراتها ذات انعكاس قوي سواء على تمثُّلاته الذهنية؛ قلقًا أو اكتئابًا أو على نظامه الهرموني؛ إجهادًا أو إفراطًا في الحركة.
ليس هذا فحسب، فقد تقع الشبكات العصبيَّة للدماغ فريسة لطيف جيني مورَّث من الآباء مسؤول عن ضعف التحصيل الدراسي عامَّة، كما أنه من المدهش أيضًا، أن التعبيرات الجينية قد تتغير بدورها نتيجة لتأثُّرها بالضغوط الاجتماعيَّة التي نتعرَّض لها، الأمر الذي قد يؤثر بدوره في التحصيل الدراسي ويُسر التعلُّم.
بدو، إذن، أننا إذ نتوخى تشخيص صعوبات التعلُّم عن طريق رصد آلية عمل الدماغ، فمن الضروري أن نتقفى العمليات النسقية بين الدماغ وكافة الأنظمة الأخرى التي يتعالق معها. ويُعدُّ اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة ADHD من بين الاضطرابات المُهمة المُصاحبة لصعوبات التعلُّم، والتي استطاعت الأبحاث العصبيَّة النفسيَّة أن تدرس آليته، وتقطع شوطًا طويلًا في تفسيرها، وهو ما سنتناوله على النحو الآتي:
عرَّفت الجمعية الأمريكية للطب النفسي اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة بأنه: “نمط ثابت من عدم الانتباه أو اندفاع مفرط في الحركة، أحدهما أو كليهما، يحول دون الأداء الوظيفي أو التطوُّر.”)(
ومن الأعراض المميزة لذلك الاضطراب؛ “1. سهولة التشتُّت من قبل المناظر والأصوات غير المتصلة بالمهمة المراد تأديتها، و2. الإخفاق في توجيه الانتباه للتفاصيل، و3. ارتكاب أخطاء الإهمال، و4. الإخفاق عادة في قراءة التعليمات كاملة وبدقة، و5. فقدان الأشياء اللازمة لأداء مهمة ما أو نسيانها، و6. الميل إلى القفز من مهمة غير مكتملة إلى مهمة أخرى.”()
تشير الدراسات [العصبية – النفسية]، و[الكيميائية – العصبية]، وتصوير الدماغ، إلى اشتراك مناطق مختلفة من الدماغ في حدوث ذلك الاضطراب؛ فعادة ما يرجع ذلك الاضطراب إلى الأعطاب التي تُصيب القشرة المخية قبل الجبهية Prefrontal Cortex ووصلاتها مع جذع المخ
() American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5 th ed.) Washington, DC: Author.
() Karin Sternberg, Robert J. Sternberg، (2017) ، علم النفس المعرفي، ترجمة: هشام حنفي العسلي، ص231، دار جامعة الملك سعود للنشر، ط1.
Brainstem البطني.() كذلك، فإن الأضرار التي تلحق بالروابط العصبية بين القشرة الحزامية الأمامية الظهرية مع نصف الكرة الجبهي والقشرة الجدارية والجسم المخطط تسهم في ظهور ذلك الاضطراب.() وبالرغم من كون ذلك الاضطراب ليس اضطرابًا وراثيًّا بمعنى الكلمة، إلا أن الدراسات الوراثية الجزيئية تدعم عمل الجينات فيه؛ مثل جينات مستقبلات الدوبامين() والسيرتونين؛ هذه المستقبلات ذات الدور الرئيس على مستوى دوائر المخ ذات الفاعليات العرفنية التي تتأثر بذلك الاضطراب؛ نحو: (التخطيط، واليقظة، وتحويل النشاط، والذاكرة العاملة الشفوية، والذاكرة المرئية والمكانية).
بالرغم من أن اضطرابات الكلام واللغة ليست سمة أساسية للأطفال المصابين بذلك الاضطراب، فقد وجدت الأبحاث أن نسبة كبيرة من الأطفال المصابين به يعانون من صعوبات النطق أو اللغة إحداهما أو كلتيهما. وقد قام كل من عالم اللغة والاتصالات الأمريكي والخبير في علم الأوبئة وعلم الوراثة في اضطرابات اللغة التطورية: [جيمس بروس تومبلين] James Bruce Tomblin، والطبيبة الأمريكية المتخصصة في الطب المهني والبيئي [كاترين مولر] Kathryn
() Bernard J. Baars وNicole M. Gaga، (2018) ، المعرفة والمخ والوعي: مقدمة لعلم الأعصاب المعرفي، ترجمة: هشام حنفي العسلي، ص751، دار جامعة الملك سعود للنشر، الرياض، ط1.
() Eric Tardif, Pierre-Andre Doudin، (2021) ، العلوم العصبية والإدراك .. آفاق جديدة لعلوم التربية، ترجمة: أحمد علي عبد الجواد، ص192، 193، دار جامعة الملك سعود للنشر، ط1.
() على الرغم من اعتقاد العلماء أن لدى نسبة كبيرة من المرضى الذين يعانون من هذا الاضطراب خللًا في أداء الدوبامين، فقد كان من الصعب إثبات هذا الافتراض بما لا يدع مجالًا للشك. وعلى الرغم من حقيقة أن الدواء الذي يوصف عادة، وهو الـ “ريتالين” يزيد من نشاط الدوبامين في الفص الجبهي. ويرجع أحد أسباب هذا الإحباط إلى أن مستوى نشاط الدوبامين التي تفرزها الخلايا العصبية في جذع الدماغ وتأثيرات على الخلايا العصبية قي القشرة الخارجية للنواة المصاحبة وكذا مستوى نشاط جزيئين يقللان من كمية الدوبامين في نقاط الالتقاء العصبي. وتتحكم في كل من هذه العوامل آليلات مختلفة. ومن ثم يمكن لأحد الأشخاص امتلاك “أليل” مسؤول عن الجزيء الذي يؤدي إلى الانخفاض السريع للدوبامين في نقاط الالتقاء العصبي في الدماغ جنبًا إلى جنب مع “أليل” لجزيء آخر، يؤدي إلى انخفاض بطيء لنشاط الدوبامين، ويجعل هذا التعقيد من العسير على العلماء التنبؤ بالمستوى الفعلي لنشاط الدوبامين في موقع معين من الدماغ. جيروم كاجان، (2014)، عناصر المزاج: تشابك الجينات والثقافة والزمن والحظ، ترجمة: عمرو حشمت، ومحمود خيال، ص217، المركز القومي للترجمة، مصر، ع2087، ط1.
() العلوم العصبية والإدراك .. آفاق جديدة لعلوم التربية: ص190، 191.
، بمراجعة للدراسات التي تبحث في حدوث اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة والضعف اللغوي، ووجدا نسبًا من العجز اللغوي تراوحت بين 45% إلى 90%.()
ويمكننا تفسير نسب العجز اللغوي المصاحبة لاضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة عن طريق إرجاعها إلى ما تتمتع به قشرة الفص الجبهي من وصلات عصبية تمتد إلى نطاق واسع على مستوى المراكز المخية.
تحتاج الاضطرابات الأخرى المصاحبة لصعوبات التعلُّم مثل ذلك التعاطي النسقي من لدن علوم الأعصاب والوراثة وعلم النفس والاجتماع؛ وذلك لتخطي مُشكل التشخيص عن طريق الاضطرابات، ومن أجل التأكد من سلامة الاستراتيجيات العلاجية والتعليميَّة واتساقها واحتياجات الطلُّاب ذوي صعوبات التعلُّم.
لمزيد شرح وتفصيل؛ يُظر كتابنا: “دراسة الاضطرابات الذهنية من منظور مادي علمي، دار كنوز المعرفة – الأردن، ط1، 2024م“.
() S. Jay Kuder، (2020) ، تعليم الطلاب ذوي صعوبات اللغة والتواصل، ترجمة : محمد محمود طلال، ص156، دار جامعة الملك سعود للنشر، الرياض، ط1.
كاتب المقال: د. أحمد عبد المنعم